فصل: سنة خمس وخمسين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مخالفة أهل إنطاكية على سيف الدولة:

وفي هذه السنة عصى أهل إنطاكية على سيف الدولة بن حمدان.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل طرسوس كان مقدماً فيها، يسمى رشيقاً النسيمي، كان في جملة من سلمها إلى الروم وخرج إلى إنطاكية، فلما وصلها خدمه إنسان يعرف بابن الأهوازي كان يضمن الأرحاء بإنطاكية، فسلم إليه ما اجتمع عنده من حاصل الأرحاء، وحسن له العصيان، وأعلمه أن سيف الدولة بميافارقين قد عجز عن العود إلى الشام فعصى واستولى على إنطاكية، وسار إلى حلب، وجرى بينه وبين النائب عن سيف الدولة، وهو قرعويه، حروب كثيرة، وصعد قرعويه إلى قلعة حلب، فتحصن بها، وأنفذ سيف الدولة عسكراً مع خادمه بشارة نجدة لقرعويه، فلما علم بهم رشيق انهزم عن حلب، فسقط عن فرسه، فنزل إليه إنسان عربي فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى قرعويه وبشارة.
ووصل ابن الأهوازي إلى إنطاكية، فأظهر إنساناً من الديلم اسمه دزبر، وسماها الأمير، وتقوى بإنسان علوي ليقيم له الدعوة، وتسمى هو بالأستاذ، فظلم الناس، وجمع الأموال، وقصد قرعويه إلى إنطاكية، وجرت بينهما وقعة عظيمة فكانت على ابن الأهوازي أولاً، ثم عادت على قرعويه، فانهزم وعاد إلى حلب.
ثم إن سيف الدولة عاد عن ميافارقين عند فراغه من الغزاة إلى حلب، فأقام بها ليلة، وخرج من الغد، فواقع دزبر وابن الأهوازي، فقاتل من بها فانهزموا، وأسر دزبر وابن الأهوازي، فقتل دزبر، وسجن ابن الأهوازي مدة ثم قتله.

.ذكر عصيان أهل سجستان:

وفي هذه السنة عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد، وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ، وكان عالماً محباً لأهل العلم، فاتفق أنه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، واستخلف على أعماله إنساناً من أصحابه يسمى طاهر بن الحسين، فطمع في الملك، وعصى على خلف لما عاد من الحج، فسار خلف إلى بخارى، واستنصر بالأمير منصور بن نوح، وسأله معونته، ورده إلى ملكه، فأنجده وجهز معه العساكر، فسار بهم نحو سجستان، فلما أحس بهم طاهر فارق مدينة خلف وتوجه نحو اسفرار، وعاد خلف إلى قراره وملكه وفرق العساكر.
فلما علم طاهر بذلك عاد إليه، وغلب على سجستان، وفارقها خلف، وعاد إلى حضرة الأمير منصور أيضاً ببخارى، فأكرمه وأحسن إليه، وأنجده بالعساكر الكثيرة، ورده إلى سجستان، فوافق وصوله موت طاهر، وانتصاب ابنه الحسين مكانه، فحاصره خلف وضايقه، وكثر بينهم القتلى، واستظهر خلف عليه، فلما رأى ذلك كتب إلى بخارى يعتذر ويتنصل، ويظهر الطاعة، ويسأل الإقالة، فأجابه الأمير منصور إلى ما طلبه، وكتب في تمكينه من المسير إليه، فسار من سجستان إلى بخارى، فأحسن الأمير منصور إليه.
واستقر خلف بن أحمد بسجستان، ودامت أيامه فيها، وكثرت أمواله ورجاله، فقطع ما كان يحمله إلى بخارى من الخلع والخدم والأموال التي استقرت القاعدة عليها، فجهزت العساكر إليه، وجعل مقدمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور، فساروا إلى سجستان، وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك، وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلاً وأعمقها خندقاً، فدام الحصار عليه سبع سنين.
وكان خلف يقاتلهم بأنواع السلاح، ويعمل بهم أنواع الحيل، حتى إنه كان يأمر بصيد الحيات ويجعلها في جراب ويقذفها في المنجنيق إليهم، فكانوا ينتقلون لذلك من مكان إلى مكان.
فلما طال ذلك الحصار، وفنيت الأموال والآلات، كتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور الذي كان أمير جيوش خراسان، وكان حينئذ قد عزل عنها على ما سنذكره، يأمره بالمسير إلى خلف ومحاصرته، وكان بقوهستان، فسار منها إلى سجستان، وحصر خلفاً، وكان بينهما مودة، فأرسل إليه أبو الحسن يشير عليه بالنزول عن حصن أرك وتسليمه إلى الحسين بن طاهر، ليصير لمن قد حصره من العساكر طريق وحجة يعودون بها إلى بخارى، فإذا تفرقت العساكر عاود هو محاربة الحسين وبكر بن الحسين مفرداً من العساكر، فقبل خلف مشورته، وفارق حصن أرك إلى حصن الطارق، ودخل أبو الحسن السيمجوري إلى أرك، وأقام به الخطبة للأمير نوح، وانصرف عنه، وقرر الحسين بن طاهر فيه.
وسنورد ما يتجدد فيما بعد، وكان هذا أول وهن دخل على دولة السامانية، فطمع أصحاب الأطراف فيهم لسوء طاعة أصحابهم لهم، وقد كان ينبغي أن نورد كل حادثٍ من هذه الحوادث في سنته، لكننا جمعناه لقلته، فإنه كان ينسي أوله لبعد ما بينه وبين آخره.

.ذكر طاعة أهل عمان معز الدولة وما كان منهم:

وفيها سير معز الدولة عسكراً إلى عمان، فلقوا أميرها، وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هلك، وملك نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة معز الدولة، وخطب له، وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلما عاد العسكر عنه وثب به أهل عمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهجريين إليهم وتسلموا البلد، فكانوا يقيمون فيه نهاراً ويخرجون ليلاً إلى معسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ليلة السبت رابع عشر صفر انخسف القمر جميعه.
وفيها نزلت طائفة من الترك على بلاد الخزر، فانتصر بأهل خوارزم فلم ينجدوهم وقالوا: أنتم كفار، فإن أسلمتم نصرناكم؛ فأسلموا إلا ملكهم، فنصرهم أهل خوارزم، وأزالوا الترك عنهم، ثم أسلم ملكهم بعد ذلك.
وفيها، رابع جمادى الآخرة، تقلد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي والمرتضى نقابة العلويين، وإمارة الحاج، وكتب له منشور من ديوان الخليفة.
وفيها أنفذ القرامطة سرية إلى عمان، والشراة في جبالها كثير، فاجتمعوا، فأوقعوا بالقرامطة، فقتلوا كثيراً منهم، وعاد الباقون.
وفيها ثار إنسان من القرامطة الذين استأمنوا إلى سيف الدولة، واسمه مروان وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها، وملك غيرها، فخرج إليه غلام لقرعويه، حاجب سيف الدولة، اسمه بدر، وواقع القرمطي عدة وقعات، ففي بعضها رمى بدر مروان بنشابة مسمومة، واتفق أن أصحاب مروان أسروا بدراً، فقتله مروان، ثم عاش بعد قتله أياماً ومات.
وفيها قتل المتنبي الشاعر، واسمه أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي، قريباً من النعمانية، وقتل معه ابنه، وكان قد عاد من عند الدولة بفارس، فقتله الأعراب هناك وأخذوا ما معه.
وفيها توفي محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم البستي، صاحب التصانيف المشهورة؛ وأبو بكر محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم المفسر النحوي المقرئ، وكان عالماً بنحو الكوفيين، وله تفسير كبير حسن؛ ومحمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدويه أبو بكر الشافعي في ذي الحجة، وكان عالماً بالحديث عالي الإسناد.
حبان بكسر الحاء والباء الموحدة. ثم دخلت:

.سنة خمس وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر ما تجدد بعمان واستيلاء معز الدولة عليه:

قد ذكرنا في السنة التي قبل هذه خبر عمان ودخول القرامطة إليها، وهرب نافع عنها، فلما هرب نافع، واستولى القرامطة على البلد، كان معهم كاتب يعرف بعلي بن أحمد ينظر في أمر البلد، وكان بعمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتفق هو وأهل البلد أن ينصبوا في الإمرة رجلاً يعرف بابن طغان، وكان من صغار القواد بعمان، وأدناهم مرتبةً، فلما استقر في الإمرة خاف ممن فوقه من القواد، فقبض على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم، وغرق بعضهم.
وقدم البلد ابنا أخت لرجل ممن قد غرقهم، فأقاما مدة، ثم إنهما دخلا على طغان يوماً من أيام السلام، فسلما عليه، فلما تقوض المجلس قتلاه، فاجتمع رأي الناس على تأمير عبد الوهاب بن أحمد بن مروان، وهو من أقارب القاضي، فولي الإمارة بعد امتناع منه، واستكتب علي بن أحمد الذي كان مع الهجريين، فأمر عبد الوهاب كاتبه علياً أن يعطي الجند أرزاقهم صلة، ففعل ذلك، فلما انتهى إلى الزنج، وكانوا ستة آلاف رجل، ولهم بأس وشدة، قال لهم علي: إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا، وأمر لكم بنصف ذلك؛ فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم: هل لكم أن تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد؟ فأجابوه إلى ذلك، وبايعوه، وأعطاهم مثل البيض من الجند، فامتنع البيض من ذلك، ووقع بينهم حرب، فظهر الزنج عليهم، فسكنوا، واتفقوا مع الزنج، وأخرجوا عبد الوهاب من البلد، فاستقر في الإمارة علي بن أحمد.
ثم إن معز الدولة سار إلى واسط لحرب عمران بن شاهين، ولإرسال جيش إلى عمان، فلما وصل إلى واسط قدم عليه نافع الأسود الذي كان صاحب عمان، فأحسن إليه، وأقام للفراغ من أمر عمران بن شاهين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وانحدر من واسط إلى الأبلة، في شهر رمضان، فأقام بها يجهز الجيش والمراكب ليسيروا إلى عمان، ففرغ منه، وساروا منتصف شوال، واستعمل عليهم أبا الفرج محمد بن العباس بن فسانجس، وكانوا في مائة قطعة، فلما كانوا بسيراف انضم إليهم الجيش الذي جهزه عضد الدولة من فارس نجدةً لعمة معز الدولة، فاجتمعوا وساروا إلى عمان، ودخلها تاسع ذي الحجة، وخطب لمعز الدولة فيها، وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقت مراكبهم، وهي تسعة وثمانون مركباً.

.ذكر هزيمة إبراهيم بن المرزبان:

في هذه السنة انهزم إبراهيم بن المرزبان عن أذربيجان إلى الري وسبب ذلك أن إبراهيم لما انهزم من جستان بن شرمزن، على ما ذكرناه سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، قصد أرمينية، وشرع يستعد ويتجهز للعود إلى أذربيجان، وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد، وراسل جستان ابن شرمزن، وأصلحه، فأتاه الخلق الكثير.
واتفق أن إسماعيل ابن عمه وهسوذان توفي، فسار إبراهيم إلى أردبيل فملكها، وانصرف أبو القاسم بن مسيكي إلى وهسوذان، وصار معه، وسار إبراهيم إلى عمه وهسوذان يطالبه بثأر إخوته، فخافه عمه وهسوذان، وسار هو وابن مسيكي إلى بلد الديلم، واستولى إبراهيم على أعمال عمه، وخبط أصحابه، وأخذ أمواله التي ظفر بها.
وجمع وهسوذان الرجال وعاد إلى قلعته بالطرم، وسير أبا القاسم بن مسيكي في الجيوش إلى إبراهيم، فلقيهم إبراهيم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم إبراهيم، وتبعه الطلب فلم يدركوه، وسار وحده حتى وصل إلى الري، إلى ركن الدولة، فأكرمه ركن الدولة وأحسن إليه، وكان زوج أخت إبراهيم، فبالغ في إكرامه لذلك، وأجزل له الهدايا والصلات.

.ذكر خبر الغزاة الخراسانية مع ركن الدولة:

في هذه السنة، في رمضان، خرج من خراسان جمع عظيم يبلغون عشرين ألفاً إلى الري بنية الغزاة، فبلغ خبرهم إلى ركن الدولة، وكثرة جمعهم، وما فعلوه في أطراف بلاده من الفساد، وأن رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك، فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد، وهو وزيره، بمنعهم من دخول بلاده مجتمعين، فقال: لا تتحدث الملوك أنني خفت جمعاً من العزاة؛ فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره، وكانوا متفرقين في أعمالهم، فلم يقبل منه، فقال له: أخاف أن يكون لهم مع صاحب خراسان مواطأة على بلادك ودولتك؛ فلم يلتفت إلى قوله.
فلما وردوا الري اجتمع رؤساؤهم، وفيهم القفال الفقيه، وحضروا مجلس ابن العميد، وطلبوا مالاً ينفقونه، فوعدهم، فاشتطوا في الطلب وقالوا: نريد خراج هذه البلاد جميعها، فإنه لبيت المال، وقد فعل الروم بالمسلمين ما بلغكم، واستولوا على بلادكم، وكذلك الأرمن، ونحن غزاة، وفقراء، وأبناء سبيل، فنحن أحق بالمال منكم؛ وطلبوا جيشاً يخرج معهم، واشتطوا في الاقتراح، فعلم ابن العميد حينئذ خبث سرائرهم، وتيقن ما كان ظنه فيهم، فرفق بهم وداراهم، فعدلوا عنه إلى مشاتمة الديلم، ولعنهم، وتكفيرهم، ثم قاموا عنه، وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسلبون العامة بحجة ذلك، ثم إنهم أثاروا الفتنة، وحاربوا جماعة من الديلم إلى أن حجز بينهم الليل، ثم باكروا القتال ودخلوا المدينة، ونهبوا دار الوزير ابن العميد، وجرحوه، وسلم من القتل.
وخرج ركن الدولة إليهم في أصحابه، وكان في قلة، فهزمه الخراسانية، فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه، لكنهم عادوا عنه لأن الليل أدركهم، فلما أصبحوا راسلهم ركن الدولة، ولطف بهم، لعلهم يسيرون من بلده، فلم يفعلوا، وكانوا ينتظرون مدداً يأتيهم من صاحب خراسان، فإنهم كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.
ثم إنهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه، فخرج ركن الدولة إليهم فقاتلهم، وأمر نفراً من أصحابه أن يسيروا إلى مكان يراهم، ثم يثيروا غبرة شديدة، ويرسلوا إليه من يخبره أن الجيوش قد أتته، ففعلوا ذلك.
وكان أصحابه قد خافوا لقلتهم، وكثرة عدوهم، فلما رأوا الغبرة وأتاهم من أخبرهم أن أصحابهم لحقوهم قويت نفوسهم، وقال لهم ركن الدولة: احملوا على هؤلاء لعلنا نظفر بهم قبل وصول أصحابنا، فيكون الظفر والغنيمة لنا؛ فكبروا، وحملوا حملة صادقة، فكان لهم الظفر، وانهزم الخراسانية، وقتل منهم خلق كثير، وأسر أكثر ممن قتل، وتفرق الباقون، فطلبوا الأمان، فأمنهم ركن الدولة، وكان قد دخل البلد جماعة منهم يكبرون كأنهم يقاتلون الكفار، ويقتلون كل من رأوه بزي الديلم، ويقولون هؤلاء رافضة، فبلغهم خبر انهزام أصحابهم، وقصدهم الديلم ليقتلوهم، فمنعهم ركن الدولة وأمنهم، وفتح لهم الطريق ليعودوا، ووصل بعهم نحو ألفي رجل بالعدة والسلاح، فقاتلهم ركن الدولة، فهزمهم وقتل فيهم، ثم أطلق الأسرى، وأمر لهم بنفقات، وردهم إلى بلادهم، وكان إبراهيم بن المرزبان عند ركن الدولة، فأثر فيهم آثاراً حسنة.

.ذكر عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان:

في هذه السنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما قصد ركن الدولة، على ما ذكرناه، جهز العساكر معه، وسير الأستاذ أبا الفضل بن العميد ليرده إلى ولايته، ويصلح له أصحاب الأطراف، فسار معه إليها، واستولى عليها، وأصلح له جستان بن شرمزن، وقاده إلى طاعته، وغيره من طوائف الأكراد، ومكنه من البلاد.
وكان ابن العميد لما وصل إلى تلك البلاد، رأى كثرة دخلها، وسعة مياهها، ورأى ما يتحصل لإبراهيم منها، فوجده قليلاً لسوء تدبيره، وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشرب والنساء، فكتب إلى ركن الدولة يعرفه الحال، ويشير بأن يعوضه من بعض ولايته بمقدار ما يتحصل له من هذه البلاد، ويأخذها منه، فإنه لا يستقيم له حال مع الذين بها وإنها تؤخذ منه، فامتنع ركن الدولة من قبول ذلك منه، وقال: لا يتحدث الناس عني أني استجار بي إنسان وطمعت فيه؛ وأمر أبا الفضل بالعود عنه وتسليم البلاد إليه، ففعل وعاد، وحكى لركن الدولة صورة الحال، وحذره خروج البلاد من يد إبراهيم، وكان الأمر كما ذكره، حتى أخذ إبراهيم وحبس، على ما نذكره.

.ذكر خروج الروم إلى بلاد الإسلام:

وفي هذه السنة، في شوال، خرجت الروم، فقصدوا مدينة آمد، ونزلوا عليها، وحصروها، وقاتلوا أهلها، فقتل منهم ثلاثمائة رجل، وأسر نحو أربعمائة أسير، ولم يمكنهم فتحها، فانصرفوا إلى دارا، وقربوا من نصيبين، ولقيهم قافلة واردة من ميافارقين، فأخذوها، وهرب الناس من نصيبين خوفاً منهم، حتى بلغت أجرة الدابة مائة درهم.
وراسل سيف الدولة الأعراب ليهرب معهم، وكان في نصيبين، فاتفق أن الروم عادوا قبل هربه، فأقام بمكانه، وساروا من ديار الجزيرة إلى الشام، فنازلوا إنطاكية، فأقاموا عليها مدة طويلة يقاتلون أهلها، فلم يمكنهم فتحها، فخربوا بلدها ونهبوه وعادوا إلى طرسوس.

.ذكر ما جرى لمعز الدولة مع عمران بن شاهين:

قد ذكرنا انحدار معز الدولة إلى واسط لأجل قصد ولاية عمران بن شاهين بالبطائح، فلما وصل إلى واسط أنفذ الجيش مع أبي الفضل العباس بن الحسن، فساروا، فنزلوا الجامدة، وشرعوا في سد الأنهار التي تصب إلى البطائح.
وسار معز الدولة إلى الأبلة، وأرسل الجيش إلى عمان، على ما ذكرناه، وعاد إلى واسط لإتمام حرب عمران وملك بلده، فأقام بها، فمرض، وأصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة ست وخمسين وهو عليل، وخلف العسكر بها، ووعدهم أنه يعود إليهم، فلما وصل إلى بغداد توفي، على ما نذكره، فدعت الضرورة إلى مصالحة عمران والانصراف عنه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خرجت بنو سليم على الحجاج السائرين من مصر والشام، وكانوا عالماً كثيراً، ومعهم من الأموال ما لا حد عليه لأن كثيراً من الناس من أهل الثغور والشام هربوا، من خوفهم من الروم، بأموالهم وأهليهم، وقصدوا مكة ليسيروا منها إلى العراق، فأخذوا، ومات من الناس في البرية ما لا يحصى، ولم يسلم إلا القليل.
وفيها عظم أمر أبي عبدالله الداعي بالديلم، ولبس الصوف، وأظهر النسك والعبادة، وحارب ابن وشمكير، فهزمه وعزم على المسير إلى طبرستان، وكتب إلى العراق كتاباً يدعوهم فيه إلى الجهاد.
وفيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم، وسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان، وأبا الهيثم ابن القاضي أبي الحصين.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة السبت ثالث عشر شعبان، وغاب منخسفاً.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم المعروف بابن الجعابي الحافظ البغدادي بها، وكان يتشيع؛ وأبو عبدالله محمد بن الحسين بن علي ابن الحسين بن الوضاح الوضاحي، الشاعر الأنباري. ثم دخلت:

.سنة ست وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار:

في هذه السنة، ثالث عشر ربيع الآخر، توفي معز الدولة بعلة الذرب وكان بواسط، وقد جهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين، فابتدأ به الإسهال، وقوي عليه، فسار نحو بغداد، وخلف أصحابه، ووعدهم أنه يعود إليهم لأنه رجا العافية، فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه، وصار لا يثبت في معدته شيء، فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه عز الدولة بختيار، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر ماله، وأعتق مماليكه، ورد شيئاً كثيراً على أصحابه، وتوفي ودفن بباب التبن في مقابر قريش، فكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهراً ويومين.
وكان حليماً كريماً عاقلاً، ولما مات معز الدولة وجلس ابنه عز الدولة في الإمارة مطر الناس ثلاثة أيام بلياليها مطراً دائماً منع الناس من الحركة، فأرسل إلى القواد فأرضاهم، فانجلت السماء، وقد رضوا فسكنوا ولم يتحرك أحد.
وكتب عز الدولة إلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين، ففعلوا وعادوا.
وكانت إحدى يدي معز الدولة مقطوعة، واختلف في سببها قطعها، فقيل قطعت بكرمان لما سار إلى قتال من بها، وقد ذكرناه، وقيل غير ذلك، وهو الذي أحدث أمر السعاة، وأعطاهم عليه الجرايات الكثيرة، لأنه أراد أن يصل خبره إلى أخيه ركن الدولة سريعاً، فنشأ في أيامه فضل ومرعوش، وفاقا جميع السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفاً وأربعين فرسخاً، وتعصب لهما الناس، وكان أحدهما ساعي السنة، والأخر ساعي الشيعة.

.ذكر سوء سيرة بختيار وفساد حاله:

لما حضرت معز الدولة الوفاة وصى ولده بختيار بطاعة عمه ركن الدولة، واستشارته في كل ما يفعله، وبطاعة عضد الدولة ابن عمه لأنه أكبر منه سناً، وأقوم بالسياسة، ووصاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين، وأبي الفرج محمد بن العباس لكفايتهما وأمانتهما، ووصاه بالديلم والأتراك وبالحاجب سبكتكين، فخالف هذه الوصايا جميعها، واشتغل باللهو واللعب، وعشرة النساء، والمساخر، والمغنين، وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين، فاستوحشوا، وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره.
ونفى كبار الديلم عن مملكته شرهاً إلى إقطاعتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم، فاتفق أصاغرهم عليه، وطلبوا الزيادات، واضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك فعملوا مثل ذلك، ولم يتم له على سبكتكين ما يريد لاحتياطه، واتفق الأتراك معه، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالعوا بختيار بإعادة من أسقط منهم، فاحتاج أن يجيبهم لتغير سبكتكين عليه، وفعل الأتراك أيضاً مثل فعلهم.
واتصل خبر موت معز الدولة بكاتبه أبي الفرج محمد بن العباس وهو متولي أمر عمان، فسلمها إلى نواب عضد الدولة وسار نحو بغداد.
وكان سبب تسليمها إلى عضد الدولة أن بختيار لما ملك بعد موت أبيه تفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور، فخاف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه، فسلم عمان إلى عضد الدولة لئلا يؤمر بالمقام فيها لحفظها وإصلاحها، وسار إلى بغداد، فلم يتمكن من الذي أراد، وتفرد أبو الفضل بالوزارة.

.ذكر خروج عساكر خراسان وموت وشمكير:

وفي هذه السنة جهز الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر الجيوش إلى الري.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس سار من كرمان إلى بخارى ملتجئاً إلى الأمير منصور، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فلما ورد عليه أكرمه وعظمه، فأطمعه في ممالك بني بويه، وحسن له قصدها، وعرفه أن نوابه لا يناصحونه، وأنهم يأخذون الرشي من الديلم، فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير، والحسن بن الفيرزان، يعرفهما ما عزم عليه من قصد الري، ويأمرهما بالتجهز لذلك ليسيرا مع عسكره.
ثم إنه جهز العساكر وسيرها مع صاحب جيوش خراسان، وهو أبو الحسن محمد بن إبراهيم سيمجور الدواتي، وأمره بطاعة وشمكير، والانقياد له، والتصرف بأمره، وجعله مقدم الجيوش جميعها.
فلما بلغ الخبر إلى ركن الدولة أتاه ما لم يكن في حسابه، وأخذه المقيم المقعد. وعلم أن الأمر قد بلغ الغاية، فسير أولاده وأهله إلى أصبهان، وكاتب ولده عضد الدولة يستمده، وكاتب ابن أخيه عز الدولة بختيار يستنجده أيضاً.
فأما عضد الدولة فإنه جهز العساكر وسيرهم إلى طريق خراسان، وأظهر أنه يريد قصد خراسان لخلوها من العساكر، فبلغ الخبر أهل خراسان فأحجموا قليلاً، ثم ساروا حتى بلغوا الدامغان، وبرز ركن الدولة في عساكره من الري نحوهم، فاتفق موت وشمكير، فكان سبب موته أنه وصله من صاحب خراسان هدايا من جملتها خيل، فاستعرض الخيل، واختار أحدها وركبه للصيد، فعارضه خنزير قد رمي بحربة، وهي ثابتة فيه، فحمل الخنزير على وشمكير، وهو غافل، فضرب الفرس، فشب تحته، فألقاه إلى الأرض وخرج الدم من أذنيه وأنفه، فحمل ميتاً، وذلك في المحرم من سنة سبع وخمسين، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله ركن الدولة شرهم.
ولما مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه، وراسل ركن الدولة وصالحه، فأمده ركن الدولة بالمال والرجال.
ومن أعجب ما يحكى مما يرغب في حسن النية وكرم المقدرة أن وشمكير لما اجتمعت معه عساكر خراسان وسار كتب إلى ركن الدولة يتهدده بضروب من الوعيد والتهديد، ويقول: والله لئن ظفرت بك لأفعلن بك ولأصنعن، بألفاظ قبيحة، فلم يتجاسر الكاتب أن يقرأه، فأخذه ركن الدولة فقرأه وقال للكاتب: اكتب إليه: أما جمعك وأحشادك فما كنت قط أهون منك علي الآن؛ وأما تهديدك وإيعادك فوالله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضده، ولأحسنن إليك ولأكرمنك؛ فلقي وشمكير سوء نيته، ولقي ركن الدولة حسن نيته.
وكان بطبرستان عدو لركن الدولة يقال له نوح بن نصر، شديد العداوة له، لا يزال يجمع له ويقصد أطراف بلاده، فمات الآن، وعصى عليه بهمذان إنسان يقال له أحمد بن هارون الهمذاني لما رأى خروج عساكر خراسان، وأظهر العصيان، فلما أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته، وكفى الله ركن الدولة هم الجميع.